+
----
-
إن القرآن الكريم كلام الله الذي يعلو ولا يُعلى عليه، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. إنه الذروة السامقة،
والمكانة العالية التي يريد كل منا أن يتسنمها. لقد أثَّر هذا القرآن في قلوب كثير من الجبابرة والعاصين،
بل كان العامل الأوحد في إسلام من لم يُرجَ إيمانهم، ويُئِس من حالهم وشأنهم، الذين كانوا في غيهم يعمهون!
نضحك كثيرًا من قول الصحابي الجليل عامر بن ربيعةحينما يعبِّر عن يأسه وقنوطه من شخصية عمر بن الخطاب قبل إسلامه،
فيقول: "لا يسلمُ الذي رأيتِ حتى يُسلم حمارُ الخطاب". فحمار الخطاب أقدر على الفهم من عمر!
أوَلهذا الحد وصل الجهل، وحالت الغَشاوة دون الإيمان؟! ولكن يُسلم عمر لمجرد سماعه آيات من صدر سورة طه.
إن القرآن الكريم معجزة الله حقًّا، معجزة أثبتت جدارتها ونجاعتها على مر السنين لكافة الأنماط البشرية؛ إذ لا يتوقف أثره عند مجرد قراءته
والتمكن من تجويده، إن أثر القرآن لا بُدَّ أن يكون جليًّا في القلوب، عاملاً لا مردَّ له في تغيير النفوس، فهو أفضل الذكر وأحكمه.
وأعجبُ كثيرًا حينما أرى أن أول آية تحدثت عن (القرآن)
في كتاب الله، كانت آية الصيام في قوله تعالى: {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} [البقرة: 185].
صحيح أن القرآن أُنزل مجملاً في شهر رمضان، لكن ارتباط القرآن بشهر الصوم له دلالات يجب على المسلم الذي يبتغي الحكمة ألاَّ يحيد عنها؛
فإذا كان شهر رمضان هو التغيير الحقيقي الموصِّل للتقوى، والذي دلت عليه الآيات السابقة في قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]،
إلاّ أن القرآن هو المنهج الأسمى الذي يجعلك مع الله طوال العام في كل لحظة من لحظات حياتك، فإذا أذعنت لهذا المنهج الرباني المنزّل في كتابه،
وآمنت بما فيه، وأيقنت أنّه الحق من ربك، لا تلبث إلا أن تسجد لله؛ حمدًا على هدايته لك، وشكرًا على انجذابك للصراط المستقيم.
ومن ثَمَّ كانت آخرُ آية في كتاب الله قد ذكرت (القرآن) في سورة الانشقاق، تستنكر استكبار الكافرين عن الإذعان لآيات الله البينات،
وذلك في قوله تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ} [الانشقاق: 21].
فما الذي يمنع هؤلاء من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر؟ وما لهم إذا قُرئتْ عليهم آيات الرحمن وكلامه لا يسجدون إعظامًا وإكرامًا واحتراما؟!
يجب أن نعيَ أنّ من أهمّ المقومات التي تبعث على تغيير النفس والواقع، أن يقارن الإنسان بين حاله وقت الضعف والركون والإذعان لليأس
وخور الإيمان، إلى الحالة التي يبتغيها من قوة الإيمان بالله، والسير على نهجه، والبحث عن السعادة في الدنيا والآخرة.
وأسلوب المقارنة بين الصالح والطالح أسلوب استخدمه القرآن الكريم في كثير من آياته، سواءٌ أكان ذلك عن طريق قصص القرآن
التي تهدف إلى الإيمان بالله، وترك ما سواه مما لا يضر ولا ينفع، وإقامة شرعه، وعدم الإفساد في الأرض، بل السعي لإصلاحها، ونشر الخيرات
وإقامة الطاعات فيها، أو كان ذلك عن طريق الآية القرآنية الواضحة الصريحة التي لا لبث فيها،
كقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ} [الأنعام: 50]،
وقوله: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} [الزمر: 9].
كل هذا ليحرَّك في الإنسان فطرته النقية التي جُبلت على الخير،
والتي لوثتها أدران الحياة وملذاتها، إنها أنستِ الإنسانَ نفسه، وجعلته يجري خلف سراب لا وجود؛
ولذلك شبّه القرآن الكافرين بمن يجري خلف لا شيء،بمن يجري خلف نفسه التي لن تهتدي لغاية، أو تحقق نفعًا،وصدق الله إذ قال:
{وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39].
أوَلم يتضح لك الآن أن القرآن هو الجسر الوحيد الموصِّل إلى جناب الله ورعايته في بحار الظلُم التي تُطغي العباد وتضلهم؟!